٠٥‏/٠٥‏/٢٠١١

وراثة

!!نحن نرث أخلاقنا تماما كما نرث طولنا ولون بشرتنا

البداية كانت مع توفيق الحكيم في سجن العمر, فور ان انهيت الكتاب اعتقدت انه لم يكن حكيما ولا حتى موفقا ,فاضطراب فعله بين تقتير غالب يعتريه انفلات بذخ ,وبين رزانة واتزان فعله وقوله عامة على ما ينفلت منه احيانا من غضبة مفاجئة او انفعال ملتهب مباغت, اضطراب فعله ليس سوى نتيجة وراثته!!!فالرجل يتارجح بين اتزان والده وقدرته على ان يفصل بين عاطفته وعقله, وبين عاطفة والدته الجياشة, فهي اما حب فياض واما كره ماحق ,لا وسط عندها ولا اعتدال...حتى ان تدقيق والده في المال والكلام على نفسه وغيره, تسلل الى كيان الحكيم فابدع مسرحياته ,فهي فن اقتصادي بخيل, الكلمات فيها محسوبة بدقة, والوقت فيها مقيد والحيز فيها محدود, لا محل فيه للاسراف والانفلات, والدته كانت على النقيض تماما ,فهي سخية بطبعها تخرج الكلمات والنقود بيسر جارف وكرم صاخب ,هذا التناقض بين الوالدين ابقى الحكيم _في اعتقاده_مضطربا بين اخلاقهما في اعماق نفسه


لم اقتنع براي الحكيم في حينها,فانا لا اعتقد اننا بهذه السطحية والتبعية,لا اتصور ان تكويني الشخصي ليس سوى جينات ارثها فأذعن لها,وعاء فارغ يملأ بنطفتين تشكلان اطار شخصيتي لأتحرك انا ببلاهة وضعف,حتى ان الحكيم  ختم كتابه باعتبار انه سجين والديه بصفاتهما"هذا السجن الذي اعيش فيه,من وراثات كانها الجدران,انا لا اعيش حياتي الا في نسبة ضئيلة اما النسبة الكبرى فهي تلك العجينة من العناصر المتناقضة التي اودعت تلك النطفة التي منها تكونت والنسبة الضئيلة التي تركت لي قضيتها في الكفاح والصراع ضد عوائق وضعها اهلي انفسهم في طريقي..."!!!عند هذه الجملة,كانت والدتي تقف امامي,مافعلته انني قذفت الكتاب من يدي_لا اعلم لماذا_نظرت لها طويلا,التهيت بحديث معها وأخذت انظر الى صورة الحكيم على الغلاف بريبة وقلق بين حين وآخر

اذا شغلني امر او فكرة ,فغالبا ما اجد آيات ربي تخاطبني بصورة شخصية.النبوة صدق وامانة ,وهي ايضا ارادة وعزم وكفاح,ليست فقط معلومة تصل شخصا عن طريق ملك فينشر ما يصله من آيات واحكام,النبوة تتطلب شخصية فريدة,لا مجال فيها للقرابة والواسطة,شخص الرسول لابد ان يكون فيه من العزيمة والفهم والصبر والمحبة,مايجعله يتحمل تكليف الدعوة تصور ان رب العالمين يختار من خلقه من يبلغ عنه في ارضه,ما ظنك باختيار الله؟كيف تعتقد آليته؟يقينا لا تشك في اختيار ربك وهو احكم الحاكمين الخبير العليم.عندما قرأت "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" اخذني التفكير كثيرا,كيف يمكن ان تكون النبوة وراثة ان لم يتبعها توريث الخلق والعلم؟اسمى مهام البشر تورث,وانا استكثر كلام الحكيم

اهداني صديقي رواية"مئة عام من العزلة"كنت قد تجاهلت موضوع الوراثة والتهيت عنه,ما حدث انني انهيت الرواية وانا مشدوه تماما,فخوسيه اوريليانو صاحب الجسم القوي والعقل المنير,قائد فذ ومخترع اكبر,تدهشه عجائب الغجر ويفني ماله ويذيب ما لديه من ذهب لاجل فكرة تملكت عقله وكيانه,انجب خوسيه اوريليانو ولدين,احداهما خوسيه الذي ورث من والده جسده وقوته,فكان عاملا قويا ذو شهوة شرسة,واوريليانو ذو الجسم الضئيل الذي ورث من والده عقله واخلاقه,فكان قائدا للمعارضة,ورجل حرب بامتياز,افكاره الحربية وشخصيته القيادية اذهلت اعداءه فصادقوه على ما بينهم من حروب,افنى عمره لفكرة آمن بها,ثم قضى على مجده العسكري ساعة كفره بها بتوقيعه اتفاق مع الحكومة,الجميل ان الرواية تتابع احداثها وينجب الابناء احفاد والاحفاد ابناء,تتكرر الصفات والطباع بصورة مخيفة حتى ان اورسولا زوجة خوسيه اوريليانو صاحت قائلة:"وكأن الزمان يدور داخل حلقة,ماينتهي يعاود البدء من جديد,وما يبدأ اعلم كيف سينتهي"هي فعلا مئة عام من العزلة,حتى وان اختلفت التفاصيل والاحداث الظاهرة,تبقى الجينات والموروثات كامنة تتحرك تحت جلودهم,بخفة وغواية تامة ,لتحركهم وتنطقهم كما تتحرك العرائس

كنت في عامي الجامعي الثالث,اول الشهر موعد الحوالة الشهرية من اسرتي,عندما اقبل رجل في الستين من عمره باتجاهي,ونظر الي,شيء ما بداخلي اخبرني الاتي"مراد الشهابي كمان اربعين سنة"ابتسمت وانتظرت اظهاره لبطاقته الشخصية,اسمه مصطفى  الشهابي فور ان خرجت من البنك سالت صديقي:هو والد مراد اسمه مصطفى؟وشكله كيت وكيت؟اجابني بنعم...صدقا لم اكن اعلمه ولا بعمري رايته لكن نظرته,مشيته وتعامله مع الموظف,همس في خاطري بانه صديقي بعد شبابه,تماما كما ورث آدم ابن اختي الصغرى هدوء والديه,بينما اذعن سيف لغضب وعصبية واختي الكبرى فكانت ردود فعله صورة منها


ربما يقنعك زويل هنا


لماذا هذه التدوينة؟؟

احيانا نشعر اننا في امان من صفاتهم,نتبرم ونسخط ونعترض متناسين اننا قد نكون صورة لهم,صديقي يشتكي دائما ان والده يحب ان يعيش تحت ضغط دائم,كلما اشتكى لي اود لو اخبره انه كذلك,لكن اصمت والفت انتباهه ان لا ينجذب لحياة والده,تماما كما تشتكي والدتي من استقلالية جدتي وعدم طلبها اي شيء وهي تحتاج الكثير من العون,واشتكي انا من استقلالية والدتي وتضييقها علينا ان اردنا ان ننجز لها شيئا,وكما يشتكي اصدقائي ووالدتي واخوتي من استقلاليتي,انا لا اقبل ابدا ان يساعدني احدهم او ينجز لي امرا,امتن بغباء لابسط فعل تقدمه لي لانني لا انتظر منك شيئا ولا اقبله,قديما قالوا من عاشر القوم اربعين يوما صار منهم,فكيف بمن سكن ارحامهم تسعة اشهر وربوه عشرون عاما ومازال!!!

ان كنت تسأم بعض فعل اهلك فاعلم انه فيك,نكران فعلهم لن يغيرك ولن يمحو جيناتك,بعد ان ايقنت انني وارث لا محالة,اصابني الوجوم بداية,ثم اصبح الامر اكثر سهولة,فنحن نرى خارجنا بوضوح اكبر من داخلنا,هي ورثتني استقلالية متطرفة تكسبني قوة وتبقيني وحيدا,وهو ورثني تهيب للبدايات يقلل فرصي,الان اصبحت احصي ما ابغضه فيهما ,وافعل عكسه تماما,وهذا يقويني ويسرع خطواتي,تعرفت على نفسي فيهم,وارى حياتي ان اتبعت اختياراتهم,فانجو قبل ان اجرب,صفاتهم ليست سجن العمر,هي
معلومة مختزنة للعمر,بامكانك ان تستخدمها




تدوينتك القادمة :افتعال
انتظرها في 15/5
تحياتي

        

هناك ١٠ تعليقات:

نور يقول...

السلام عليكم
- مرورٌ عاجل -
.. قرأت وبروّية ، لن أخفيك أنني ولأول مرّة أخالفك وكثيراً ..
لي عودة قريبة ، إن شاء الله

emad.algendy يقول...

وعليكم السلام
سعيد باختلافك
انا ابغض هذه الفكرة
لكن اؤمن ان الانسان لاتحده جينات ولا موروث
كما ان ربي عدل رحيم
في انتظار اثراؤك
تحياتي

BAZ يقول...

حلوة جدا
عجبتني
وكل ما بيتقدم بيا السن باحس بيها .. رغم اختلاف الرحلة واختلاف الأماكن والتجارب

sporeforminghuman.. يقول...

رائع

Shrekuh يقول...

أول مرة اقرأ تدوينة على هذه المدونة و لكني اسمتعت جدا و اعتقد أني سأظل متابع لتدويناتك !

نور يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
نور يقول...

أسعد الله أوقاتك بكل خير
وضعت هذا التعليق من قبل ولا شك أنه ضاع مع ما ضاع من الخلل الذي لحق بلوغر أمس ..

*
نحن نرث أخلاقنا تماماً كما نرث طولنا ولون بشرتنا "
هكذا افتتحت تدوينتك ، وبالتالي جزمت الامور بأن الأخلاق تورّث وتماماً وبأن السلوك موروث يولد مع ابن آدم يرثه كما يرث الخصائص والصفات الجسمية ..
لكن ما أراه أن الوراثه لا تكون للأخلاق او السلوك ، وإنما بوجود القابلية والاستعداد للاتصاف بها لدى الفرد فإن وجدت فيما بعد - بالتربية والتنشئة والبيئة المحيطة / بكل أشكالها .. ما ينمّي هذه الأخلاق ويعزز هذا السلوك سيَظهرُ الخلق أو السلوك تقليداً ومحاكاةً للنموذج / الأب أو الأم أو المعلم ... الخ بدايةً ، ثم وعياً ونضجاً وعلماً فيما بعد ، وإن وجد العكس فإن الاستعداد الوراثي - على الأغلب لن يرى النور .
ربما وكما في " حي بن يقظان " اكتسب من بيئة الغابة وحيواناتها تلك الصفات وربما لمّا يبدو عليه شيء من استعداداته الوراثيه ... وعليه قياس .....
لن أدّعي بذلك ان أخلاقنا وسلوكاتنا بكاملها مكتسبة .. لكنني لا أستطيع أن أقول أنها وراثة وحسب .

أخي عماد
كل الشكر لك ، ومعذرة على الإطالة .

emad.algendy يقول...

BAZ
شكرا لمرورك

sporefom...
شكرا

mazak
عسى ان تجد دائما ما يمتعك


نور

في البداية تحية لتواصلك الرائق
قصرت كثيرا في الفترة الماضية لظروف خاصة
اتفق معك اننا نرث القابلية
"فالهمها فجورها وتقواها"
ربما لاجل ذلك ابغضت الحكيم وابغضت كتابه سجن العمر
ربما لانه قرر انها موروثة لا مناص منها
اسعدني تعليقك ووسطن الفكرة كثيرا
ربما كانت الجملة الافتتاحية صادمة تماما كما صدمتني امكانية الوراثة للخلق منذ عام
لا اقصد ان اقرر ابدا انها وراثة لازمة
اتفق معك في كل ما كتبته
شكرا لمرورك كثيرا
مساؤك رائق
تحياتي

غير معرف يقول...

العزيز نور جميل أن اعدت الرأى فى سيرة توفيق الحكيم الذاتيه سجن العمر ولقد تذكر ايها العزيز ان قد خالفتك الرأى فيها قبل اعوام,نعم نرث اخلاقنا وعاداتنا وآمالنا كما نرث الواننا واديانناوكل ما قد نتوجه به وله فى حياتنا الدنيويه المحدوده يتأثر سلبا أو ايجابا ببوصله خفيه هي ما قد اختزناها داخلنا من تنشئه الطفوله والمحيطين بنا ولقد ابدع وافاض فى الحديث عن هذه النظريه الدكتور على الوردى مؤسس علم الإجتماع بالعراق فى كتاب من أفضل ما كتب فى فنه بالعربيه وهو كتاب مهزله العقل البشرى اللذى ارجو ان تقرأه

emad.algendy يقول...

العزيز ابو نزار
وااااااااااااحشني
بجد
مبسوط اوي انك رجعت تقرالي وتعلق تاني
واحشني بجد
ادام الله وجودك
على امل ان اقرا الكتاب
وعلى امل ان يستمر التواصل