٢٩‏/١١‏/٢٠٠٨

الأمراء

فور ان استلم مصروفي من خالي اتجه ركضا الى بقالة الأٌمراء...احاول ان تتباطأ خطواتي شيئا فشيئا قبل الوصول الى مدخلها... حتى اذا ما لامست قدماي عتبة البقالة اقف لبرهة...التقط فيها انفاسي بعمق واسبق بعيني الى الداخل ...ادخل البقالة في خوف ورغبة في التخفي عن كل شيء... كنت ابحث "عنها "في كل ركن وزاوية...احيانا كنت اعتقد انها تختبىء مني في مكان ما...كانت البقالة مكشوفة..ليست اكثر من مستطيل يِِِِرى جميع جوانبه وحوائطه....لكن بابا خلفيا يفتح على غرفة"خزين" صغيرة هو ما اثار شكوكي....


كم كنت اقف امام هذا الباب منتظرا ان تخرج من خلفه..قد يطول وقوفي امامه..لايفيقني سوى صوت البقال قائلا:

-عايز حاجة يابني....


اناوله النصف جنيه..وآخذ اول ما تلامسه يداي دون ان اختار...لا ادري كم طال وقوفي امام البقالة...ما اذكره انني احيانا كنت اخذ مصروفي من جدتي وخالي في اليوم الواحد اكثر من مرة...لا طمعا في الشراء...لكن سببا لدخول البقالة والبحث عنها...اذكر انني لم اترك وقتا من نهار او ليل الا وقمت "بكبسة"على البقالة تلهفا لرؤيتها...الى ان ادركت ما غاب عني...


كان الوقت ظهرا...حان موعد الغداء...استاخرني خالي وجدتي...وكالعادة ودون ان يعلم احد...كنت امام البقالة اراقب من الرصيف الاخر...مركزا كل نظري على باب غرفة "الخزين" لعلي ارى ظلها او طيفها...فاجاني صوت خالي يناديني...التفت اليه...كان مشدوها لوقفتي...

-واقف هنا ليه في الحر ده؟؟؟

-مستني ماما تطلع...

-ماما ايه اللي هيطلعها من هنا...

-مش قولتوا ماما سافرت "الإمراء"....انا واقف مستني اشوفها....

-يابني ماما سافرت "الإمارات" دي بلد تانية...ده "الأٌمراء".دي بقالة اسمها" الأٌمراء" مش" الإمارات".


لم ادرك ايا ماقاله خالي...كل ما اذكره اني سالته بحزم وضيق:.

-يعني ماما مش هنا..

-لا مش هنا...



لماذا استقرت هذه الصورة بداخلي....كلما اخذني الحنين لوالدتي اجدها تطفو من قاع الذكريات...اجدني اراقب ذلك الطفل من بعيد مشفقا عليه احيانا...ومبتسما له تارة اخرى....




٢٢‏/١١‏/٢٠٠٨

مقلديات:معايشة

" في تمام الثالثة فجرا ظلام دامس يحيط به .... يتلمس جسده ليتاكد انه مازال موجودا نابضا بالحياة... ظلام يلتهم كل شيء... انين الصمت يكاد ينسف عقله... تعلم من الليالي الماضية كيف يتحرك من غرفته باقل الخسائر الممكنة....يوميا وقبل ان ينام يرسم خريطة لتحركاته بالمنزل متجنبا كل ما يمكن ان يكسر تحت السواد...كل ما عليه فعله ان ينتظر الشروق.
قيظ اغسطس يوقظه بلا ماء او كهرباء يفكر قليلا ماذا لو نسفوا منزلهم هذه المرة؟......يبتسم قليلا...فهو يدرك ان الامر كله لم يكن اكثر من" معايشة"تطمئنه والدته انها احتفظت بكمية لا باس بها من المياه يمكنه ان يستخدمها ليتوضا ان اراد الصلاة يتجه الى مصدر صوتها وقبل ان يصلها يرتطم بجسم دافىء مندى كزهرة بيلسان من الجليل:
-سامحك الله ...اصبت وجهي يا ولدي
-لم ارك والدتي..اعتقدت انك ابعد....اللعنة على الظلام...اين شموع الامس؟؟؟
يجيبه والده انها نفدت ونسي ان يشتري غيرها...
يتجهان الى الحوض يضم كفاه معا... منتظرا الماء...يسمع خريره....يعلم انه اخطا مصب والدته...يحرك يداه دائريا بحثا عن اي قطرة ...يتوضا ويعود لغرفته يتحسس سجادة الصلاة بعد ان كان وضعها نهارا باتجاه القبلة متحسبا لليل... يجثو بركبتيه.... عليه الان ان يتاكد انه داخل اطارها تماما وفي اتجاه القبلة....يتحسس جسده ويتصور مكانه داخلها... بعد ان يتاكد من استقباله القبلة يقف ليصلي داعيا لهم....
كم يشعر بالضعف حيالهم... هو لم يعد يطيق صبرا... وهم يعيشون حاله شهورا.....هو يلزم عقله ان "يتخيل""يعايش" وهم يزفون للموت ارواحهم كل ليلة... "
تكرر الاسبوع الماضي حصار غزة لمرة اخرى...استدعى ذلك بداخلي ما كنت عرفته من ابراهيم مقلد* عن احد الاباء بمدينتي..كان ما وصفته ليلة من ليالي احد ابنائه....الوالد اراد ان يربي ابناءه على ما يعايشه اهل غزة...هو يفصل الكهرباء والماء عن شقته كل ليلة بموافقة ابنائه ليعايشوا اخوانهم خلف حدود رفح.... يستمر فصل الماء والكهرباء حتى طلوع الشمس ....
هو الان لم يعد يطلب منهم ان يقاطعوا او يتبرعوا او حتى ان يحملوا همهم ....اصبح اولاده يقومون بذلك تلقائيا بعد ليلة معايشة واحدة...اعتقد ان فكرته وتربيته ابداع حقا....
عندما رست سفينة كسر الحصار القبرصية شعرت بالعجز حقا...السفينة لم تكن من طرابلس صيدا اللاذقية او حتىالاسكندرية ...كانت من قبرص.....
مابين معايشة وكسر حصار يتحرك من حولي من كل عرق ولون ودين ....ومازلت اقف اتابع باهتمام واسى فقط...
ماذا عساي ان افعل؟
-----------------------------------------
*ابراهيم مقلد شيخ بمدينتي اسلامه لا يقف عند حدود العبادة او ينتهي بعد عتبة مسجده..اسلامه يمتد لكل حركة وهمسة...اسلامه منهج حضارة لا علاقة روحانية خاصة فقط.."مقلديات : معايشة" هكذا كان عنوان تدوينتي...من كثرة ما اعتمل في من حديثه...

١٥‏/١١‏/٢٠٠٨

بدايات

سبعة عشر عاما مضت من عمر شوبنهاور دون ان يكتب فيها كلمة....ألم به شيء من ياس وركود جف فيهما قلمه...بعد ان ظل اربعون عاما يكتب ويؤلف توقف فجأة بعد ان تملكه اليأس من أن ينال ما يستحق من تقدير...سبعة عشر عاما لم يكن يفعل خلالها شيئا سوى القراءة وتناول وجبات الطعام بالمطعم والتحديق صامتا بالساعات في تمثال بوذا على مكتبه.....

أيام طه حسين في الازهر كانت رتيبة ثقيلة الوطأة على نفسه....حتى انه عد اربعة اعوام قضاها باربعين سنة...كم* ضاق بهذا السأم الذي ملأ عليه حياته كلها واخذ عليه نفسه من جميع جوانبها...حياة مطردة متشابهةلا يجد فيها جديد...كان يفكر في ان امامه ثمانية اعوام اخرى سيعدها ثمانون عاما..وان عليه ان يختلف الى هذه الدروس كما تعود وان يسمع ذلك الكلام الذي لا يسيغه ولا يجد فيه غناء..

بين ركود شوبنهاور وسأم طه حسين من دراسته وحياته الرتيبة بالازهر وقفت لفترة..كانت ايامي ثقيلة..ليل طال زمنه وشمس غابت دون ان تعود...ايام خسرت فيها بعض ما اكتسبته... لكني أعلم يقينا ان باستطاعتي ان ابدا من جديد... مازال بداخي وميض قادر على بعثي..كل لحظة جديدة بحياتي تولد بقدر خاص بي...لماذا لا اقتنصها؟ أؤمن انني اذا مددت يدي للسماء دنت لي النجوم...الهي ينتظرني كل يوم وليلة باسطا يداه لي...لماذا لا اتلمس صراطه كما يريد مني ...

شوبنهاور استعاد حيويته فجاة ونشر مقالا فلسفيا ثم اصدر الجزء الثاني من مجلده"العالم ارادة وفكر" فاذا بالاوساط العلمية تلتفت اليه وتضع على راسه اكاليل المجد...واذا بالشهرة تفاجئه وهو يقترب من سن السبعين...لكنه بدا من جديد حتى ولو بعد السبعين,وطه حسين ادرك عوالم لم يعرفها...وعلوم لم يسمعها بعد التحاقه بالجامعة...بداية جديدة وطريق جديد فيما يحب جعل حياته اكثر ابداعا وشغفا لما يتعلم ويدرس...بداية نقشت اسمه على صفحة الزمان....

ماذا عني؟؟ ان بدات من جديد ماذا يتنظرني؟
أشتاق لأعرف...
-----------------------------------------------------------------------


*بداية من "كم"الى نهاية الفقرة من كتاب الايام

٠١‏/١١‏/٢٠٠٨

عشرة قروش....


نظر اليهم , دقق قليلا في ملامحهم, كانه يراهم لاول مرة,اتجه نحوها:
-اعتقد ان هذه اكثرهم جمالا.
-قد نجني من جمالها تبرعات اكثر.
-اذا اعتمدها ليتم تصويرها غدا من قبل حملة الدعاية للملجأ.
انطلقت تركض في ارجاء الملجأ تعلن لصديقاتها انه سيتم تصويرها, غبطها البعض , بينما حاول الاخرون ان يودعوها:
-غدا يصورونكي وتتركي هذه المقابر
-قالوا انها للتبرعات فقط.
-قد ينشروا صورك ويطلب احدهم تبنيك ...
سافرت بخيالها الى عالم لم تره من قبل ...كان جل حلمها ان تترك الملجأ لم يجل بعقلها الصغير مع من ستعيش ....كيف ستعامل...اسيحبوها؟؟ يودوها؟؟؟ ام مجرد عطف وشفقة؟؟؟؟ كل ما وصلت اليه انه مكان اخر.........مكان اخر خارج هذه الاسوار.

في المساء طارت كفراشة من عنبر لاخر,حاولت جاهدة ان تمضي السويعات قبل التصوير بأمان,كيف ستقف امام الكاميرا .... وكيف سيداعب الفلاش عيناها.....أسيؤذيها بوميضه....أم تلمع به دانتيها الزرقاوتين.....أسيطلب منها المصور ان تبتسم .....تبكي ....تتصنم في مكانها ...ام سيطلب منها ان تدمع عيناها؟؟؟؟ اين ستصور؟ بين سرائر عنبرها ام بين زهور حديقتها؟ماذا لو اخذت دميتها وصوروها بها.....تتذكر انها اصبحت دمية بلا أطراف ..تزعجها الفكرة....

اسدل الليل ثوبه المخملي على السماء....ساعة ويدق جرس النوم ........تعود وترسم صورتها فوق سريرها ...لكن اين ستخفي غطاء سريرها الذي لم يتبق منها سوى اطاره الخارجي....كيف ستصور على سرير عار؟ماذا لو اخفته؟يبدا القلق يعصف بعقلها ...
ماذا قد ترتدي؟؟اترتدي بنطالها المرقع المهتك على قميصها وحيد الكم......ام ترتدي فستانها المسدل امامها لامتار كجلباب عم حسين حارس الدار....كيف سيصور كفاها الصغيرتان ان ارتدته....؟ أسيرتعد من ذلك الشبح الصغير؟؟تتخيل صورها ....تبتسم قليلا..... ثم تمضي في الملجأ....
تتذكر صديقتها اسماء...ماذا لو منحتها اسماء غطاء سريرها لليلة واحدة فقط...حتى اذا ما صورها ردته لها,لكن المشرفين قد أطفأوا الانوار...واسماء في العنبر الموازي لها....

-أسماء...اسماء
نعم, سملى....
-غدا سيصوروني ويتبناني احدهم......
-حقا؟؟
-نعم...قال المدير انني اكثرهن جمالا....
-سلمى...لاتنسيني بهد ان تخرجي...تعالي انتي وتبنيني...
-لن انساك....ساتبناك في اليوم التالي لخروجي,كم احلم ان نخرج سويا خلف هذه الاسوار...اسماء...هل لي بغطاء سريرك؟؟؟؟
-لماذا؟؟؟
-قد يصورني على سريري,واود ان اتصور مع غطائك....ساخذه لليلة فقط
-حاضر ...لكن احضري الكرسي الخشبي من عنبرك وقفي عليه...وساناولك اياه من النافذة العلوية....بين عنبرنا....
-حاضر

ركضت الى الكرسي الخشبي...حملته بكل قوتها...وانى لها ان تحمله وهي بنت الثمانية اعوام....لكنها كلما تذكرت فلاش الكاميرا تزداد قوة, ألصقته بالجدار ووقفت عليه,حاولت ان تصل الى النافذة لكن لم تستطع....فكرت قليلا.....لماذا لاتقف على ظهر الكرسي برجل واحدة...تثبت رجليها...تصعد برجل واحدة أولا لتجربه...اهتز بعض الشيء....لكنها تشاهد غطاء سلمى امامها....تحاول ثانية...تندفع اكثر....رجل على ظهر الكرسي...والاخرى تدفعها....ارتدت بعد ان لمسة غطاء سلمى....
انتظرت لبرهة....استجمعت كل قواها واحلامها....ثم همت ان تقفز....كانت قفزتها اكبر من كرسيها الصغير...تماما كما احلامها....تسقط على جبهتها الصغيرة...مخلفة كدمة اكلت وجهها وشيء من عينيها.....
هرولت باكية للمربية ,ضمتها بدفء لحضنها بشدة واخذت تبرد كدمتها :
-وصورتي غدا
-لا تقلقي عشرة قروش فقط تربطيها على كدماتك وتختفي
-الديك عشرة قروش؟؟
حاولت مربيتها جاهدة ان تجد لها العشرة قروش لكن دون فائدة:
-ابحثي مع احدهم قد تجدي

طافت العنابر تسال صديقاتها العشرة قروش لكن انى لهم وهم لم يجاوزا اسوار الملجأ.قضت الليل بكاء على سريرها وكم تمنت ان يطول الزمن ولا تاتي ساعة التصوير .
ياتي الصباح تنهض من سريرها وتقف على باب الملجا ...اخذت تسال الداخلين من مربيين ومشرفين واداريين العشرة قروش:
-عشرة قروش...عشرة قروش...
لكن احدا لم يلحظ وجودها....لاحركة ولا صوتا ولا حتى ظلا.....دخل الملجا رجل لم تره من قبل ركضت اليه ووقفت امامه:
-عشرة قروش....اريد عشرة قروش....
نظر اليها حاول تجاوزها واختفى بين الحجرات....
لحظات وتاتيها المربية الى البوابة...ادخلتها حجرة المدير,ووجدت ذلك الرجل,همت ان تساله العشرة قروش,لكنها ارتعدت من نظراتهم اليها:
-هذه؟؟؟
-نعم
انحنى الرجل الى اذنه وهمس بصوت خافت ...
-هذه من ساصورها للدعاية؟؟؟؟
-نعم
-دعاية لملجا ام لدار احدات؟؟؟
نظرت اليهم ولم تعلم من هو بعد...ادار ظهره وترك الحجرة.....لحقته الى البوابة....وصاحت:
-اريد عشرة قروش.....عشرة قروش فقط....
ادار لها وجهه ورمى لها العشرة قروش.....اخذتها وركضت الى المربية:
-هكذا يبقى ان ياتي المصور وارحل خلف هذه الاسوار......
ساترك القصة لمدة اسبوعين...دمتم بخير